فصل: الحقيقة والتشبيه والاستعارة في القرآن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.الحقيقة والتشبيه والاستعارة في القرآن:

102 - هذا باب من أبواب تصريف القول في القرآن وضرب الأمثال به، والحقيقة في اصطلاحنا ليست مقابلة للمجاز بكل فروعه فقط، بل هي مقابلة للمجاز والتشبيه والاستعارة، وهي ضرب من ضروب المجاز، وإذا كان علماء البلاغة يعدُّون التشبيه من قبيل الحقيقة؛ إذ إن أساس الحقيقة في نظرهم أن يستعمل اللفظ فيما وضع له، والتشبيهات التي تكون بأدوات التشبيه الألفاظ فيه موضوعة في مواضعها، والمجاز الذي يقابل الحقيقة أنْ تكون الكلمة دالة على غير ما وضعت له؛ لعلاقة بين المعنى الأصلي والمعنى الذي استعملت فيه مع قرينة دالة على هذا وعدم إرادة المعنى الأصلي.
ذلك هو اصطلاح علماء البلاغة، ولا غبار عليه، ولكنَّا في مقام الإعجاز القرآني نذكر الحقيقة - غير المجاز، غير التشبيه، ونريد الحقيقة المجردة، أي: استعمال الألفاظ فيما وضعت له من غير ذكر مقابلة بين لفظ ولفظ عن طريق التشبيه الذي يجمل المعاني أو يقرّبها، أو يأتي بصورة بيانية تلتقي فيها الحقيقة مع إثارة خيال يكون كأطياف الصور.
فالحقيقة التي نطق عليها حقيقة ونحن نتكلَّم في القرآن هي ما تدل عليه الألفاظ في أصل وضعها من غير مجاز ولا استعانة بتشبيه، ولا مشاحة في الاصطلاح. ونتكلم هنا في الحقيقة والتشبيه، والاستعارة التي هي التشبيه من غير ذكر أداة التشبيه أو ما يدل عليه. وفي القرآن هذه الأمور كلها مع أنواع المجاز المرسل الذي لم تكن العلاقة فيه بين المعنى الأصلي والمعنى المجازي المشابهة بينهما.
103 - إنَّ القرآن قد كان فيه التعبير بالحقيقة، وهنا نجد السكاكي يعتبر التعبير المجازي أبلغ من التعبير عن المدلولات بالألفاظ التي وضعت لها، وقد يكون ذلك في غير القرآن، ولكنه ليس على إطلاقه حتى في غير القرآن، أما القرآن فليس فيه جزء أبلغ من جزء ولا أبين، بل كل في موضعه وفي منهاجه، بلغ أقصى درجات البلاغة التي لا تسامي ولا تناهد، وليس في طاقة أحد من البشر أن يأتي بمثله.
ولا شك أنَّ بعض الموضوعات القرآنية لا يكون للمجاز أو للتشبيه فيها موضع، بل إن المجاز والتشبيه فيها يخلّ بالبلاغة فيها حتى في كلام الناس، وليس من النثر الفني فيها التشبيه إلا أن يكون للتقريب.
وإن الحقيقة تستعمل في كثير من مواضع القرآن كالأحكام الشرعية التكليفية؛ لأنَّ بيانها يحتاج إلى أن تكون الكلمة محدودة المعنى ليتمَّ القيام بموجبها، وتكون الطاعة محدودة المعالم، لا احتمال فيها؛ إذ إنَّ المطالبة يعمل توجب تعيينه بما لا يوجد فيه احتمال لمعنى غير المراد، ليتمَّ التكليف على بينة وعلم واضح بالمطلوب.
وكذلك القصص، فإن القصص ذكر لحقيقةٍ ما وقع لتكون به العظة الكاملة، بحيث يتجه التالي للقرآن إلى مغازي القصة، ومراميها من غير تزيد، كما رأينا في كثير من القصص القرآني فيما تلونا من قصص نوح وإبراهيم وموسى ويوسف من قبله، فإنك ترى فيه الحقائق مجردة إلا من بيان وجه العبرة، ولا تجد المجاز والتشبيه إلا قليلًا.
وكذلك الاستدلال على الوحدانية بالنظر في الكون وما اشتمل عليه، والنظر في الشمس والقمر والنجوم المسخرات وهكذا، مما يوجب الاتجاه مباشرة إلى الحقائق.
104 - وإن بلاغة الحقائق التي تذكر من غير استعانة بمجاز أو تشبيه لا تقل عن المواضع التي كان فيها تشبيه أو مجاز بالاستعارة أو غيرها، فإن ذلك يكون لمعان مقصودة، وغايات أخرى وراء فكرة البلاغة التي هي وصف عام للقرآن كله من غير تفاوت، لأنها تتعلق بكتاب الله العزيز الذي لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، ولو كان معه الجن والإنس، كما قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
ويقول في ذلك الباقلاني في كتابه إعجاز القرآن: إن عجيب نظمه وبديع تأليفه لا يتفاوت، ولا يتباين، على ما يتصرف فيه من الوجوه التي يتصرف فيها من قصص، ومواعظ واحتجاج، وحكم وأحكام، وإعذار وإنذار، ووعد ووعيد، وتبشير وتخويف، وأوصاف، وتعليم أخلاق كريمة وشيم رفيعة، وسير مأثورة، وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها، وتجد كلام البليغ الكامل، والشاعر المفلق، والخطيب المصقع يختلف على حسب الأحوال.
وبعد أن يبين اختلاف البلغاء فيما يجددون من أبواب ثم يقصرون في غيرها فيقول: وقد تأملنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه على حد واحد في حسن النظم وبديع التأليف والوصف لا تفاوت فيهن ولا انحطاط عن المنزلة العليا. ولا إسفاف فيه إلى الرتبة الدنيا، وكذلك تأملنا ما ينصرف فيه من وجوه الخطاب من الآيات الطويلة والقصيرة فرأينا الإعجاز في جميعها على حدو احد لا يختلف، وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة تفاوتًا وتبينًا، ويختلف اختلافًا كبيرًا، ونظرنا القرآن فيما يعاد ذكره من القصة الواحدة، فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت، بل هو نهاية البلاغة، فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر؛ لأنَّ الذي يقدرون عليه قد بيَّنَّا فيه التفاوت الكثير عند التكرار وعند تباين الوجوه.
ونرى من هذا أنَّ الإجماع على أنَّ القرآن كتاب الله لا تتفاوت عباراته؛ لأنه من عند الله الذي لا تفاوت بين الأشياء عنده، ولا فرق في البلاغة بين ما كانت الحقائق فيه تذكرة مجرَّدة عن التشبيه والمجاز.
ولنذكر بعض آيات الأحكام التي تذكر الأحكام مجردة، اقرأ آية المحرمات، قال الله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا، حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النساء: 22 - 25].
هذا آية من آيات الأحكام لم يستعمل فيها المجاز ولا التشبيه، ومع ذلك هي بالغة من البلاغة حدَّ الإعجاز القرآني، فالتآخي بين الألفاظ والمعاني ثابت، حتى إنَّ كل كلمة فيها حكم تومئ إلى التي تليها، مع بيان الحكمة الشرعية، والتعيل لبيان المحرمات التي حرمها، وكانت حلالًا في الجاهلية في زعمهم؛ كزواج من كانت زوجة لأصل من أصوله، وابتدأ بها سبحانه لِمَا لها من خطر وشأن، إذ يتبين تحريم ما أحلُّوا بزعمهم، وما يبتدأ به الكلام يكون قوي التأثير، وقد وصفه سبحانه بأنه فحش في الواقع؛ لأنه أمر غير مألوف في الطبائع السليمة، والأخلاق الكريمة، وأنه ممقوت عند الناس لا يفعله رجل يألفه الناس بل يمقتونه، ولذلك كان يسمَّى عند العرب (نكاح المقت)، فمع أنَّ الجاهلية ما كانت تحرّمه بزعمها، كانت تكرهه وتمقته، ولا يفعله الكرام.
ولمَّا جاء النص الكريم بتحريم الأمهات وهنَّ الأصول من علٍ، استشرفت النفس لمعرفة حال البنات، أتحلّ أم تحرم، فجاء التحريم في وقت الاستشراف إليه والتطلع نحوه، فكان البيان وقت الحاجة إليه، وكذلك الأخوات وهنَّ أولاد الآباء والأمهات والعلاقة بهنَّ تلي العلاقة بالأولاد، ثم جاء من بعد أولاد الأبوين، وهنَّ الأخوات أولاد الأجداد، وهنَّ العمات ثم الخالات فكانت كل طائفة ممهدة لذكر التي تليها، تجذبها إليها بمقتضى تداعي المعاني، كل معنى يدعو أخاه، وكل واحدة تلتحم مع أختيها في تآلف لفظي، وتآخٍ معنوي.
ولقد كانت المرضع تعد أمًا كالأم النسبية؛ لأن هذه إذا كانت قد حملته في بطنها، وغذته من دمها جنينًا، فتلك قد وضعته في حجرها وغذته من لبنها رضيعًا وأنشزت عظامه، وأنبتت لحمه، كما كانت الأولى، فكان من تداعي المعاني أن يذكر في إيجاز غير مخلٍّ الأمهات الرضاعيات من أولادهن، ومن التقى معه على ثدي واحد.
كان من مقتضى التناسق المعنوي أن تذكر بعد صلات النسب الصلات السببية، وهي المصادرة، فابتدأ بأمهات الزوجات، ثم اتجه الذهن بعد تحريم أمهات نسائكم إلى الربائب؛ لأنه إذا ذكرت الأم تطلَّعت النفس إلى ذكر حكم البنت، فذكر بعد تحريم أمهات الزوجات ما يتعلق بتحريم بنات النساء وهنَّ الربائب، وذكر حكمة التحريم وهي أنَّهنَّ في حجره وكبناته.
وإذا ذكرت أمهات الزوجات وبناتهن، وزوجات الآباء، يكون لتتميم القول، ولما يستدعيه قانون تداعي المعاني أن تذكر زوجات الأبناء أهنّ حلال أم لا.
وهكذا نرى أن المعاني كل وا حدة تدعوها السابقة فتلاحقها في اتساق ونسق جامع.
وكل ذلك في نغم متآخٍ، وفي صورة بيانية من مجموع القول، فعندما تقرأ الآيات من أولها إلى آخرها تجد صورة بيانية لأسرة متكاملة، ليس فيها تقاطع، بل فيها تراحم وتواصل ومحبة ومودة، فما كان ذلك التحريم إلّا لتكون المودة هي الواصلة، فلا يفحش ابن مع أبيه، ولا يمقت ولد أباه، ولا يعتدي أب على ابن.
وإنَّ ما اختص به القرآن من تقابل بين الحقائق في البيان، وتوافق في العبارات من غير منافرة، ولا معاضلة، متحقق ثابت لا مجال لإنكاره، وما اختصت به العبارات من إشراق وضياء، تجده منيرًا حول الكلمات.
وإذا كنا قرأنا آيات الزواج وتكوين الأسرة، فلنقرأ حكم الله إذا تنافر ودها، وأصبح التفرق بينهما أمرًا لا بُدَّ منه: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ}، فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا، فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا، وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا، ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا، أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى، لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 1 - 7].
وترى من هذه النصوص القرآنية أنها تضمنت أحكامًا كثيرة، تضمنت أحكام الطلاق وأحكام العدة، وأحكام الرجعة، وأحوال المعتدات، وتضمنت بعض أحكام الرضاعة، وأحكام النفقات بين الزواج، وخروج المعتدات من بيوتهن.
وهنا نلاحظ ملاحظة نفسية قد نبَّه إليها القرآن الكريم في ألطف تعبير وأعطف نص، وكأنه بلسم لشفاء نفس مجروحة، قد أرثتها حرقة الألم بسبب الفراق، وذلك أنَّ الآيات موضوعها الطلاق، وهو لا يكون إلّا إذا تعذَّر الوفاق، فالنفوس تكون مضطربة، واليأس يكون مخيمًا، والعلاقات تكون في حال يائسة، ولذلك نجد فتح باب الأمل لتلك النفوس التي اعتراها يأس من الحياة الزوجية السليمة؛ إذ يقول سبحانه بعد وضع الحدود، وأن من يتعداها يظلم نفسه {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، ثم يبين سبحانه وتعالى - العدة، ويبين أنها فيصل تفرقة أو عودة، وأنَّ المطلوب إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، ويذكر أنَّ الأمر قد يكون في طيَّاته ما يخرج النفوس من مضطرب الخلاف إلى متسع الوفاق، فيقول سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] من ذلك المزدحم الذي تعترك فيه الأحاسيس والمشاعر بين عشرة طيبة أو فرقة لا ظلم فيها، ويقول سبحانه وتعالى - في ذلك المقام أيضًا: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] وبعد أن يبين سبحانه وتعالى - العدة للآيسة من الحيض، ومن لم تره وهي ثلاثة أشهر، ثم يبين عدة الحامل بعد أن يبين عدة الحائل هنا، ويقول لنفوس محرجة آسفة حزينة عرفت الحاضر والماضي، قد فات إن خيرًا وإن شرًّا، وهي تجهل القابل، فهي تجهل ما يطويه، فيقول سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4]، ويذكر سبحانه وتعالى - وجوب النفقة في مواضع وجوبها، وأحوال وجوبها، والإرضاع ووجوبه، ثم يبين مقدار الواجب، على أن يكون على قدر طاقته، على الموسع قدره وعلى المقتر قدره {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7].
وهكذا نجد العبارات القرآنية السامية فيها طمأنة النفس على ما يطويه المستقبل، فيجعل لهم رجاء بمخرج يخرجهم، أو يجعل من أمره يسرًا، وإن هذا النوع من القول هو الذي يقال عندما تتأزم النفوس، وتقطّع العلاقات بعد ودٍّ كان دائمًا أو كان يرجى له الاستمرار، ويشترط لتحقيق ذلك الأمر الذي فرج الله به الكروب التقوى والعمل الصالح، وإن هذين إذا تحققا في تلك الحال طابت النفوس ورضيت بالواقع إن لم يكن منه مناص، وغيرته بالإيمان إن كان ثمَّة محل للتغيير.
وإن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، ليعلم الذين يرون أسرة قد ضاقت صدور أهلها حرجًا، واستولى عليها من الحياة الزوجية الصالحة يأس وغلبت شدتها، وذهب رخاؤها أن يفتح باب الرجاء فيها بعد إغلاق الآمال، وأن يكون ميسرًا، ولا يكون معسرًا، وأن يكون مبشرًا، ولا يكون منفرًا.
وإن تلك النصوص القرآنية السامية تجد فيها البلاغة التي تصل إلى أعلى الدرجات في ذاتها لا في نسبتها، فابتدأ الله تعالى الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم خاطب المسلمين من بعد مواجهته، وخوطبوا بالجمع للإشارة إلى تكافل جمعهم، وتضافرهم وتعاونهم على البر والتقوى في المواطن الحرجة، والاستعانة بالمشورة والرأي، وقد أمر بالرفق بالمرأة، فلا يطلقها إلَّا وهي متصلة بحالة العدة، لكيلا يرهقها بإطالتها، فتكون بين اليأس والرجاء في قلق نفسي، وهكذا استمرَّت الأحكام الرفيقة تبين الآيات منها حكمًا بعد حكم.
وجمال التعبير يشرق دائمًا، وحلاوة النغم تنساب في النفس انسياب النمير العذب، كما تنطلق الأحكام إلى العقل والقلب في اتعاظ واعتبار واهتداء إلى الحق، وفي انسجام فكري.
وإذا كان سرد الأحكام وخصوصًا في موضع دقيق كأحكام الأسرة يكون بادي الرأي في كلام الناس جافًّا غير مشرق، فإن ذلك في كلام الناس، أمَّا في كلام الله تعالى فإنَّه مشرق طيب الأعراق، واضح القسمات في نغم هادئ يطب للقلوب جفاءها، فيذهب، وللنفوس فتنقى الشح، وهو عظة وهداية وتوجيه إلى العدل المطلق المنظم للأسرة في سلامتها وبقائها، وفي فصلها وانتهائها، وسبحان الله العليم الخبير.